تيارات الساحة الفلسطينية
يبدو أنّ المجتمع الفلسطيني، بعد نجاح حوار القاهرة وإعلان حركتي " حماس " و " الجهاد الإسلامي " مشاركتهما في الانتخابات التشريعية القادمة، مقبل على إعادة صياغة جديدة لخارطته السياسية الرسمية، وتشكيل بداية مرحلة جديدة منسجمة مع المتغيّرات التي تعصف بالمنطقة بشكل عام، حيث يتجه الجميع نحو المشاركة السياسية بعيدا عن الشروط التقليدية التي كانت تقيد هذه المشاركة .
ومن الواضح أنّ الساحة الفلسطينية، في هذه المرحلة، تنطوي على تيارين رئيسيين: أولهما، التيار الوطني العريض المتمثل بحركة " فتح " وبعض القوى الصغيرة التي تتفيأ بظلها . وثانيهما، التيار الإسلامي، المتمثل بحركتي " حماس " و " الجهاد الإسلامي " .
أما التيار الثالث، وهو ما يطلق عليه مجازا اسم " التيار الديمقراطي"، فهو يتماثل في شعاراته السياسية مع برنامج حركة " فتح "، ولكنه يكافح من أجل تعزيز الديمقراطية والمشاركة في القرار وفي صوغ قيادة جماعية للساحة الفلسطينية، ومن أجل الحفاظ على برنامج الإجماع الوطني . ولكنّ مشكلة هذا التيار أنّ حضوره الجماهيري بات محدودا، وبالتالي فإنّ قدرته على الحركة أو التأثير باتت ضعيفة أيضا. ومعضلة هذا التيار أنه غير قادر على صياغة أوضاعه، عن طريق التوحد في إطار واحد أو عبر تشكيل جبهة متحدة بمنابر متعددة، مما يقلل من نفوذه ومن فاعليته في التأثير الفاعل .
وفي السياق العام لـ " فتح "، توجد عناصر جذب تدفع باتجاه وحدة الحركة وعناصر تدفع باتجاه التفتت . ومن الواضح أنّ اسم حركة " فتح " سيستمر لأسباب تاريخية، أي الحاجة للاستمرارية في التاريخ الوطني الحي في الأذهان . إضافة، أنّ عنصرا آخر سيدفع باتجاه وحدة الحركة وهو مطلب الانتخابات الداخلية الذي سيكون له شرعية لا يمكن أن تقاوم . ويبدو أنّ هذه سمة ستلازم النظام السياسي الفلسطيني في المستقبل، لأنها أحد أسس الشرعية السياسية في عالم اليوم .
بالمقابل، فإنّ عناصر التفتت تبدأ في أية مقاومة ممكنة للأسس الجديدة للشرعية داخل الحركة، أي الانتخابات والمأسسة وإصلاح النظام الداخلي، خاصة من قبل الرعيل الأول الذي ما زال يمسك بزمام الأمور داخل الحركة، وبوجود مطالبات ملحة بالإصلاح خاصة من قبل جيل " الداخل " . لذا من المرجح أن تنشأ " فتح جديدة " أو متجددة بفعل الانتخابات، ربما على مراحل تسبقها تجاذبات تهدد بظهور حالات متباينة الرؤى، ولكن سيستقر الأمر في النهاية على من يعتمد الانتخابات كأساس جديد للشرعية الداخلية حتى لو بعد حين .
إنّ تجديد الدماء في حركة " فتح " وإعادة الاعتبار لنظمها الداخلية يمثل طوق النجاة الوحيـد لمستقبل الحركة، خاصة أنّ الكثيرين من قياداتها الوسيطة ينادون بإعمال الآليات الديمقراطية، لاسيما التأكيد على عقد المؤتمر العام السادس للحركة في موعده المقرر في أغسطس/آب القادم لاختيار قيادات جديدة وشابة بدلا من القيادات التاريخية التي استمرت في مواقعها أكثر من ثلاثة عقود متصلة، وحيث بعضهم متهم بالفساد وتوظيف مواقعه القيادية لخدمة مصالحه الخاصة على حساب مصالح الفلسطينيين العامة .
أما التيار الإسلامي فقد كرس نفسه في العقدين المنصرمين لاعبا أساسيا وتيارا مهما ورئيسيا على الساحة السياسية الفلسطينية، وعلى رغم بعض الاضطراب والتردد بخاصة في الفترة التي تلت رحيل الرئيس عرفات مباشرة، إلا أنّ مواقف الإسلاميين وتصوراتهم أخذت في التماسك عبر تبني أسس وركائز رئيسية في التعاطي مع الاستحقاقات الصعبة التي تواجهها القضية الفلسطينية . إذ يبدو أنّ الإسلاميين منفتحون على فكرة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها البيت أو الإطار الوطني القيادي الجامع .
لقد استطاع هذا التيار، لاسيما خلال سنوات الانتفاضة، تنمية رصيده السياسي في المجتمع الفلسطيني، وفي مجال الصراع ضد إسرائيل، حتى أنه بات بمثابة شريك، غير معلن وغير مباشر، لحركة " فتح " التي تعتبر الحزب القائد في الساحة الفلسطينية والمقرر لشؤونها الداخلية والخارجية. ففي المرحلة الجديدة يبدو أنّ " حماس " حسمت أمرها تجاه السؤال الذي لازم مسيرتها السياسية وأرّقها منذ النشأة، وهو المشاركة المباشرة في صنع القرار الوطني الفلسطيني من موقع المسؤولية وليس موقع المعارضة . وعبر إقرار المشاركة بالانتخابات التشريعية " تخطو مسيرتها السياسية خطوة كبيرة وضرورية طال انتظارها باتجاه تسييس أكثر وبراغماتية ملحة تفرض عليها، بعد سنوات طويلة من إثباتها لنفسها، أن تنخرط في المشهد السياسي الفلسطيني على مستوى قيادي يضطرها للمشاركة في تحمل المسؤولية مباشرة " .
على أنّ هذه المشاركة كفيلة بأن تجنب " حماس " الكثير من الاتهامات بأنها " منظمة إرهابية "، وستوفر لها مظلة أمان سياسية كبرى لاسيما في الإطار الدولي، وذلك جنبا إلى جنب مع الانتشار في الداخل الفلسطيني عبر آليات العمل السياسي والجماهيري والاجتماعي .
ولكن يبدو أنّ مشكلة التيار الإسلامي، برغم براغماتيته التي أظهرها في مناسبات عديدة، أنه لم يقرأ – بعد - الواقع الدولي جيدا، الذي تغير كثيرا بعد جريمة سبتمبر/أيلول 2001، وأنه ظل يعتمد ذات النهج الذي اعتمده سابقا في كفاحه ضد العدو الإسرائيلي، مما أضر به وبالساحة الفلسطينية عموما، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
إنّ النظر في موضوع العمليات الاستشهادية يجري على مستويين : المستوى الشعوري والوجداني، والمستوى السياسي . ويجب ألا يختلط هذان المستويان البتة حينما يكون العقل إمامنا، فالسياسة هي الفعل الواعي المباشر الذي يهدف، فعلا، إلى تغيير الواقع . وهي " فن معرفة الحقائق وفن اجتراح البدائل وفن الوصول إلى الأهداف لا فن المواعظ والمواقف المبدئية . أما البديهيات والمبادئ العامة والمواقف المبدئية، فهي تريح الضمير الفردي لكنها لا تقدم شيئا في العملية السياسية ولا تؤخر " .
وفي هذا السياق، يجدر القول : لم تنتصر ثورة في العالم إلا حينما صار معظم الرأي العام العالمي إلى جانبها، والذين يقولون أنّ الرأي العام لا يعنيهم من قريب أو من بعيد هم خارج شؤون العصر . ولم تنتصر ثورة في العالم إلا حينما أصبحت هذه الثورة معضلة داخلية لدى الخصم، وحتى تنتصر الثورة الفلسطينية المعاصرة لا بدَّ أن تنتقل القضية الفلسطينية من مشكلة أمنية لإسرائيل إلى معضلة داخلية . وهذا يعني الإنصات إلى الداخل الإسرائيلي، خاصة جماعات السلام والقوى المناوئة للسياسات العنصرية الإسرائيلية، بالرغم من محدودية تأثيرها حاليا .
لقد بدا بعض الأخوة متحمسين لدخول مباني التصورات الإسرائيلية أو الخانات التي تكرسها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لنا في الذهنية العامة بمقولات وفرضيات وقعنا فريسة في شباكها، غير مدركين أنّ قول شمشون الجبار بعد قص شعره ووقوعه في الأسر لم يعد نافذا في زمن ثورة الاتصالات وإنتاج " الحقيقة " من خلال الشاشات والمرئيات، فتصير قابلة كأي شيء للتصرف خاضعة بالكامل لعلاقات القوة . فلنعترف، ما دامت حال " الحقيقة " آلت إلى هذا المآل، أنه لم يعد في هذه الدنيا قضايا مفهومة ضمنا أو مفروغ منها أو بديهية .
ولعل ممثلي التيار الإسلامي الذين باتوا يبدون مؤخرا إشارات إيجابية مهمة، لجهة التهدئة والهدنة والاقتراب من برنامج الإجماع الوطني والمشاركة في الانتخابات التشريعية والبلدية المقبلة، معنيون باتخاذ مواقف أكثر إيجابية لجهة الانخراط في النظام الفلسطيني والمساهمة بتطويره، على قاعدة المأسسة والقانون والعلاقات الديمقراطية ومبدأ النسبية . ويبـــــدو أنّ " حماس " و " فتح " دخلتا في صفقة تاريخية، خلال اجتماعات القاهرة التي جرت مؤخرا، بحيث يقدم كل منهما تنازلات مهمة، ففي إطار الشراكة المستقبلية أصبحت " فتح " مستعدة لإنهاء أسطورة التنظيم القائد والوحيد وتقاسم حصص النفوذ، مع " حماس " وبقية الفصائل داخل البلديات وفي المجلس التشريعي، والانضمام للمجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .
إنّ المعطيات التي أدت إلى صعود " حماس " وترسخ مكانتها لا تبدو على حالها، بمعنى أنّ هذه الحركة وجدت نفسها في مواجهة مأزق سياسي كبير في حال تجاهلت المتغيّرات الفلسطينية والإقليمية والدولية الحاصلة منذ جريمة11 سبتمبر/أيلول 2001، واندلاع الحرب الدولية ضد الإرهاب، واحتلال العراق، وانحسار التأييد العربي والدولي لأعمال المقاومة المسلحة لصالح انتهاج الطرق التفاوضية ـ السلمية، ولا سيما حالة الاستنزاف والإرهاق التي تعرض لها الفلسطينيون في الأرض المحتلة، طوال السنوات الماضية، والتغيير الحاصل في القيادة الفلسطينية .
وعليه، ثمة مخارج عدة أمام " حماس " و " الجهاد الإسلامي " للتكيّف مع الوضع الفلسطيني الجديد، للخروج من مأزقهما، والحفاظ على مكانتهما، أهمها إيجاد مقاربة سياسية لبرنامج الإجماع الوطني، الذي يتأسس على تسوية ترتكز على قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، والانخراط في النظام الفلسطيني، في مؤسسات منظمة التحرير وفي المجلس التشريعي عبر المشاركة في الانتخابات القادمة، ومراجعة أشكال عملهما، واعتماد الأشكال التي لا تسهّل على إسرائيل البطش بالفلسطينيين، وتظهر إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية تمارس إرهاب الدولة .
وحين تتقدم حركة " حماس " نحو موقعها الجديد، فإنّ هذا سيرتب عليها مسؤوليات صعبة، أقلها ضرورة التعاون مع التوازنات الدولية والعربية في رسم خارطة الطريق الفلسطينية نحو الدولة المستقلة، ولعل ذلك يشير إلى النقلة النوعية الثالثة في مسيرة النظام السياسي الفلسطيني المعاصر .
أما بالنسبة إلى التيار الديموقراطي، فقد بينت الانتخابات الرئاسية أنه لا يمكن الاستهانة بحجمه، فهو يشكل القوة الثالثة في الساحة الفلسطينية . لكنه حتى يستطيع استنهاض قواه وتعزيز مكانته، فإنه بحاجة إلى إعادة صياغة جذرية لأوضاعه وتوحيد صفوفه وبلورة مواقفه.
ومن المفيد ملاحظة أنّ الأداء القوي للكتلة الديمقراطية التي يمثلها الدكتور مصطفى البرغوثي يعكس قرب تجاوز المجتمع السياسي الفلسطيني لمرحلة تنظيمات التحرر الوطني إلي مرحلة تظهر فيها حركات قد تتطور إلى أحزاب تدمج مهام البناء الداخلي بمهام التحرر من الاحتلال، الأمر الذي يعكس درجة عالية من نضج المجتمع السياسي الفلسطيني ربما بدرجة تفوق حالة المجتمع السياسي في بلاد عربية مازالت ساحاتها السياسية محكومة بشعارات التحرر الوطني بالرغم من أنها تعمل في إطار دول حصلت علي الاستقلال منذ وقت طويل .
إنّ الخيار الديمقراطي اليساري الفلسطيني، هو خيار موضوعي ويعبر عن ويعكس مصالح قطاعات اجتماعية أساسية، رغم كل الصعوبات الكثيرة والمتعددة التي يواجهها هذا الخيار، وبعضها موضوعي من طراز طبيعة المجتمع الفلسطيني كمجتمع شرقي تهيمن عليه الثقافة الإسلامية، وما حدث على المستوى العالمي من انهيار واسع وشامل لقوى المنظومة الاشتراكية، وتحديدا مركزها الاتحاد السوفياتي السابق . أما المعوّقات الذاتية فهي من طراز يسار يفكر بعقلية اليمين، ويبدو في أغلب الأحيان ملحقا تابعا له، كما أنه يبدو دائما كمتلقٍ للفعل وليس صانعا له، ناهيك عن عدم القدرة على صوغ البرامج السياسية والاجتماعية، والقدرة على تجديد رؤيته وبنيته التنظيمية، بما يمكّنه من أن يشكل قوة جذب اجتماعي في أوساط الشعب الفلسطيني .
وكلما حاول المرء أن يعتقد أنّ ممثلي هذا التيار يمكن أن يتوافقوا علي تصور ما فإنه يصطدم بأنّ الحسابات الفئوية الضيقة والأزمة المستشرية في صفوفهم تحول دون ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر توقعنا أن يتمكن ممثلو هذا التيار أن يتوافقوا على مرشح رئاسة واحد إلا أنهم اختلفوا وتباينوا ولم يتفقوا، وثلاث قوى منهم رشحت كل منها مرشحها الخاص دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية الحصول علي نسبة معقولة من الأصوات، ولا نقول النجاح .
لقد عرفت الشعوب نوعين من المعارضة : المعارضة الواعية، الموضوعية، الإيجابية، التي تشكل صمام أمان لقضايا الشعوب،وتعمل على تصويب المسيرة والتصدي للأخطاء، من خلال الحوار، وبالاستناد بها إلى الجماهير، واستعمال المنابر الإعلامية والبرلمانية والوسائل الديمقراطية كافة . أما المعارضة السلبية، فهي التي تخوّن وتشكك وترفض كل شيء، وتعارض أي تحرك، وتكتفي باتخاذ مواقف رافضة مطلقة من بعيد، وتتحلل من مسؤوليتها عن كل ما يجري، معارضة صارمة وقاسية ودوغمائية في خطابها السياسي والأيديولوجي، لكنها سهلة وطيعة على الأرض، بسبب ترك المجال للآخرين لصياغة الأمور وفق مقاساتهم، ورؤاهم دون أن تحرك ساكنا، اللهم القول لا علاقة لي بكل ما يجري .
وبناء عليه، فإنّ الفلسطينيين بحاجة إلى معارضة من النوع الأول . معارضة تخوض الانتخابات وتتابع كل التفاصيل، وتسعى لتعزيز وجودها البرلماني والبلدي في كل الهيئات والمرافق . معارضة، حتى وإن لم تصل إلى السلطة، تطرح نفسها كقوة تمثل نسبة ذات قيمة في المجتمع . إنّ مثل هذه المعارضة من شأنها أن تقوّي موقف السلطة الوطنية الفلسطينية وتساعدها تفاوضيا، وتشكل لها ظهيرا صلبا، وتضع أمامها البوصلة لتصويبها إذا ما فقدت الاتجاه .
المهم أنّ النظام الفلسطيني الجديد سيأتي كثمرة تفاعل إيجابي في قلب التيارات الثلاثة كل على حدة، الوطني والديمقراطي والإسلامي، كما بين هذه التيارات، برغم أنّ هذا التفاعل لن يخلو من بعض التجاذبات والتوترات . وحتى يحصل ذلك فإنّ الساحة الفلسطينية ستظل تعيش إرهاصات المرحلة الانتقالية .
الانتخابات وتداعياتها
تشكل الانتخابات الرئاسية الفلسطينية لمجرد إجرائها، والطريقة التي جرت فيها، ونسبة مشاركة الناخبين فيها، والنتائج التي أسفرت عنها، حدثا بالغ الأهمية في التاريخ الفلسطيني المعاصر . إذ هي تحمل جملة دلالات تتصل بالحاضر وبالمستقبل : ديموقراطية الفلسطينيين المتمثلة في حسن ممارستهم للتعددية، والمسؤولية العالية التي واجهوا فيها المهمات المطروحة أمامهم، ومقدرتهم، في ظل الاحتلال، على رسم شكل نظامهم المقبل بعد أن يتحرر بلدهم ويشكلوا دولتهم المستقلة على أرض وطنهم .
وإن كانت الانتخابات الرئاسية مؤشرا على وجود ثقافة ديمقراطية عند الفلسطينيين ،إلا أنها لن تؤسس حالة ديمقراطية حقيقية إلا بعد انتخابات تشريعية تشارك فيها قوى المعارضة الإسلامية، وهي لن تؤسس دولة ديمقراطية إلا بعد دحر الاحتلال .