أيها الناس .. من رأى منكم امرأة فارعة الطول واسعة العينين جميلة الشكل كانت تعد لبيت الزوجية ثم فضلت الموت على البيت السعيد فقامت بتفجير نفسها لأن السعادة مع الاحتلال منتفية .. من رأى منكم وفاء .. وهي تحزم نفسها بالموت على قارعة الطريق عندما لبت نداء فلسطين .. من رأى منكم امرأة بالف رجل .. تعيد الينا ذكريات شقيقاتها من السلف عندما كن يرافقن الجيوش الزاحفة نحو عالم جديد يلفه دين جديد يغطي هذا الكون بعدله وحلمه وبطولته .. من رأى منكم وفاء ادريس وهي دامعة العينين باكية على من يموتون بالمجان لكنها ابدا لم تبك على نفسها عندما قررت ان تخوض تجربة الموت وهي بعد صبية.
من رأى منكم وفاء وهي تضمد جراحات المنتفضين تداوي هذا وتواسي ذاك وهي تعلم علم اليقين انها ذاهبة للموت فلا تبتئس ..
وفاء انسانة ككل البشر .. تحلم بالبيت السعيد والامومة والحياة الجميلة .. انها نموذج للآم والاخت والعمة والخالة والشقيقه .. كان يمكن ان تنجب اطفالا تربيهم على حب الموت في سبيل ان تظل كرامتها مصانه .. لكنها لم تنتظر .. فضلت ان تعطي مثلا على ان الكرامة جزء من الحياة .. وان الموت ايضا جزء من الحياة .. ففجرت نفسها في وقت مناسب تماما لكي تعطي مثالا لكل المتقاعسين انها امرأة بالاف الرجال .
من لا يمتلك منا ان يضع وفاء مثالا حيا للمرأة العربية التي تموت وعيناها تندى على اولئك الذين ماتوا قبلها لأنهم طالبوا بان يعيشوا حياة مثلما يعيش خلق الله في هذا العالم دون احتلال ودون حواجز في الطرقات او حجزا لرغيف الخبز الذي يعطيه الجيش الاسرائيلي للناس نقطة اثر اخرى في عملية تجويع لم يشهد التاريخ لها مثيلا ..
من منا رأى وفاء قبل ان تموت .. من منا قبل ثغر الموت قبل ان ينتحر .. من منا انتحر وهو يقبل ثغر الموت .. ان وفاء اسطورة عربية خالدة سوف يسجلها التاريخ باحرف من نور لتعطي مثالا حيا على ان المرأة العربية لم تخلق فقط للكحل والريميل وحمرة الخدود .. لكنها خلقت ايضا لكي تقول لبنات جنسها وللجنس الاخر ان الحب هو الموت .. وان الموت هو اقصى معاني الحب للارض والانسان .. انها الحياة الجديدة التي يشكلها الشعب الفلسطيني وهو يموت بين نظرات الاهل والاقارب واولاد العمومة والخانعين من حكام العرب .
في الزمن القديم قالت امرأة وامعتصماه .. فتحركت الجيوش وكلنا يعرف الحكاية .. ولكن وفاء لم تقدم لنا صكا بنداء استغاثة .. لانها تعرف ان شهادة وفاة العرب قد سجلت ضمن القوائم في دائرة المواليد الاسرائيلية .. وان موتها لا يحرك شعرة من لحى حكام العرب الذين فضلوا ان يكونوا نعاجا على ان يقاتلوا ويموتوا .. انها المفارقة العجيبة بين من يريد الموت بكرامة وبين من يريد ان يعيش بذل وبسطار الاعداء فوق رأسه ..
وفاء سر هذا الكون .. انها الام التي صرخت باعلى صوتها فلم يسمعها احد من العرب .. لكنها فضلت ان تكون صرختها موتا حقيقيا لكي تحرك بعض الضمائر التي ماتت منذ زمن بعيد .. فهي تعلم انها تصرخ في واد عميق لا يجيب صوتها غير الصدى .. لكن ذلك الصدى كان اعمق لديها من الاف الكلمات والبيانات التي تصدر حبرا على ورق .. انها مأساتنا في عالمنا الواسع .. ولكن هذا العالم يغمض عينيه تماما عما يجري .. ووفاء حاولت تذكير هذا العالم وتذكيرنا بانه ما زال في هذا الكون اناسا يحبون الموت مثلما يحب الاعداء الحياة .
هل بقي لنا من أثر وفاء ما كان يجب ان تقوله ولم تستطع .. نعم .. لقد قالت بان شوارب الرجل ليست دليلا على رجولته .. وقالت بان الكثير من الحكام هم نسوة في ثياب رجال .. وتحدثت عن كل ما يمكن ان يوصم بالكرامة .. تحدثت عن الصبايا وهن يردن مواسم القطاف ويحملن جرارهن زرافات الى عين القرية لملء جرارهن بالحياة .. قالت لنا بصريح العبارة ان بذور الارض يمكن ان تنبت السنابل اذا ما سقيت بالدماء .. وطالبت ببيان غير مكتوب جميع الناس في الوطن ان يكونوا مثل رمال الطريق وطين الارض ورائحة الزيزفون بعد هطول المطر .. قالت كثيرا .. ولكنها لم تقل لنا انها تريد ان تعيش لترى اطفالا اذلاء يركعون تحت بساطير الاحتلال دون ان تحرك دموعهم وآهاتهم هذا العالم المتحجر .. قالته فعلا ففجرت نفسها حتى لا تراهم وقد ركعوا يطلبون الغفران من القاتل ففضلت ان تكون هي الضحية حتى لا يقال انها قصرت في حق اطفال المستقبل .
ماذا قالت لنا ايضا وفاء .. قالت ان ربيع فلسطين لا ينبت الا اذا سقيته بالدماء .. وهو البلد الوحيد في هذا العالم الذي يكبر فيه الزيتون واشجار البرتقال وفسائل الورود دون مياه ..انه يشرب ويطلب المزيد .. وهناك الكثير من الناس ممن آمنوا بما آمنت به وفاء ينتظرون في صف طويل لاخذ دورهم في سقاية زروع بلادهم ..
قالت لنا وفاء ان عشقها لم يكن حبا طبيعيا .. انه الوله الذي قادها الى ان تكون الضحية البطلة التي سيذكرها الناس لمدى عقود طويلة ..
قالت لنا وفاء ان الموت ليس حكرا على الرجل .. وليس النضال والقاء الحجارة حكرا على الاطفال .. ان تعبئة الناس على ارض الرباط يمكن ان يتم حتى وهم يلتهمون طعامهم القليل وماءهم الشحيح ..
لقد اعطتنا وفاء مثالا حيا عن مدى ما يمكن ان يكون عندما تتحرك الدماء في جسد المرأة تطلب الشهادة .. كما تطلب السعادة .. ووفاء وجدت سعادتها في اختيار العديد من المحتلين وهم يقفون على قارعة الطريق لكي تقول لهم بالفعل لا بالكلمات .. ان وجودهم على الارض التي سرقوها لا يمكن ان يستمر حتى نهاية التاريخ .. فحاولت ان تضع نهاية تراجيدية لقصة مضحكة .. يضحك عليها العالم وسع فمه .. اما اطفال فلسطين .. فيبكون دما دون ان تمتد اليهم يد او تواسيهم كلمة ..
وفاء سر هذا الكون .. وما اكثر الاسرار في هذا الكون